اتصال الثالثة فجرا



استيقظت فى الثالثة فجرا على رنين هاتفى المتواصل، حينما استيقظت كنت أصارع أحلاما تمنعنى من الاستيقاظ وتشدنى شدا لكى أستمر فى متابعتها. بالتأكيد حينما استيقظت لم أكن أعرف كم مرة رن الهاتف من قبل، ولكن على أى حال لم ألحق المتصل ولم أرد عليه، نظرت فى المحمول وجدتها الساعة الثالثة فجرا وقد اتصل بى هذا المتصل لتوه ست مرات، وهو جار لى فى المنظقة. خرجت من غرفتى لأتفقد أسرتى، فرن الهاتف من جديد فتحت الخط على الفور..

سلام الله عليكم ..

سلام الله عليكم ..

سلام الله عليكم ..

ألو ... ألو ...

ألو ...

ألو .

أيضا لا مجيب سوى بعض الأصوات التى تأتى من بعيد وفيها صوت يشبه صوت البكاء ولكنه بعيد.

أغلقت الخط بعد يأسى من أن يجيب المتصل، انتظرت ثوانى ثم قمت بالاتصال به.

ألو ازيك يا .. كيف الحال؟ خير؟
هو باكيا: احمد والدتى تعبانة جدا، ياريت تيجى بسرعة

أنا: خير فى ايه بالضبط؟
هو: مغمى عليها، بسرعة يا أحمد
أنا : طيب انا جاى حالا بس ياريت ننقلها بسرعة على أقرب مستشفى، أجيب العربية وانا جاى؟
هو: لا العربية موجودة
أن: طيب حالا هاكون عندك

أخذت سماعتى ، وانطلقت إلى بيته مسرعا، صعدت إلى المنزل وطرقت الباب ودخلت، لأجد جارى وأخيه ووالده ومعهم طبيب قد حضر أيضا للتو، وأم صديقى مغما عليها.
سألت الطبيب: ما الحالة.
أخبرنا أنها تعانى من هبوط حاد بالدورة الدموية
قمت بالاتصال بالاسعاف ووصفت لهم العنوان.
ونزل الطبيب ليحضر محلولا وادوية

قمت بفحص الأم بعد نزول الطبيب، لأتبين الحقيقة وهى انها بالفعل قد فارقت الحياة.

دقائق وعاد الدكتور ليؤكد لهم أنها فعلا قد فارقت الحياة، وبعدها حضرت سيارة الاسعاف فطلبنا منها المغادرة فلم يعد هناك فائدة منها. ورحل معها الدكتور.

دقائق عصيبة عشتها، وانا بين جارى وأخيه ووالده وهم يتلقون الخبر ويبكون، وأنا أقف حائرا محاولا تهدئتهم وتثبيتهم قدر ما أستطيع، وبدأ بعدها توالى حضور الأقارب من هنا وهناك ..

دقائق وارتفع أذان الفجر فذهبت للصلاة، ذهبت لهذا المسجد الذى كنت سابقا أسكن بجواره وكنت دوما أصلى فيه ومنذ وقت طويل لم أصلى فيه.

أخذت ذاكرتى تستدعى من الماضى أحداث كثيرة عشتها فى صفحات هذا الماضى، أذكر أصدقائى ونحن نلتقى بين جنبات هذا المسجد عقب كل صلاة ونطمئن على أحوالنا. أتذكر كيف كنا نلتقى هنا فى عقب كل امتحان من امتحانات الثانوية لنطمئن على الممتحنين وأخبارهم، اتذكر أيام كنا نصلى الفجر هنا ونشرب كوبا من الحلبة مع إمام المسجد قبل أن نذهب لدورة الكرة أو اليوم الرياضى. أتذكر كم جلست على ذات احائط الذى استند عليه وفى نفس المكان مرارا وتكرارا قبل ذلك وعلى عاتقى واكتافى الكثير من الهموم والذنوب وانا أرجو الله أن يخفف عنى وأن يغفر لى.
أتذكر أيام كنا نعتكف هنا ونفطر سويا وننام ونضحك ونسمر...
قمنا للصلاة وذهبت بعدها مع جارى وأخيه لمنزلهم مرة اخرى لنعد بعض الأمور استعدادا للحظة نقل الأم التى كانت من قليل تجلس بينهم بكامل صحتها وعافيتها، وتتكلم مع جارى الشاب عن زواجه وانتقاله لبيته وتركه لها، من قليل قبًلها اخوه الأصغر فقالت له منذ وقت لم تفعلها ولا أبد أن أرد القبلة لك لتقبل ابنها قبلة لم يكن ولم تكن تعلم انها قبلة الأم الأخيرة له فى الحياة، لتوها كانت تحادث زوجها على الهاتف ويخبرها أنه فى الطريق وتنتظر هى عودته ربما كما كانت تفعل على مدار سنوات وسنوات هى مدار حياة هذه الأسرة الصغيرة.

توالى جموع الناس من الجيران والأقارب والكل فى عجب واستغراب، ولكن لا عجب من الموت.....

فى الليل تقابلنا من جديد فى العزاء. دخلت إلى دار العزاء وجلست هناك، أخذت أقلب عينى فى صفوف الحاضرين.

ياااه هؤلاء هم صحبة الصبى جميعهم مجتمعون هنا، كم من الوقت مر ولم نلتقى لم نجلس سويا، ربما لسنوات تفوق فى عددها عدد أصابع اليد. ظللت أنظر إليهم وأتذكر نعم هذا اخى وجارى الذى قد توفيت والدته منذ قرابة العشر سنين، ربما لم نكن نعى حينها فعلا أبعاد معنى الموت وتوابعه، لم نكن نعلم إلا أن صديقنا هذا أصبح يتيما ولم يعد له أم تهتم به هو وإخوته وتعد لهم الطعام والملبس.
انظر هناك فاجد صديقنا وجارنا ذاك الذى فقد والده منذ خمسة سنوات، إنه عم .. الذى كان يجلس فى محله الصغير ونذهب ونجئ ونلقى عليه السلام ونجلس لنحكى ونتكلم معه.
أتذكر أبى الذى رحل عن عالمنا منذ عامين وأتخيله لو كان موجودا اليوم فى دار العزاء وكيف كانت ستكون كلمته عن الموت فى جموع الحاضرين..

انتهى ربع القرآن، لنخرج من دار العزاء ونقف فى صف متجاورين بجوار صاحبنا الذى فقد للتو أمه ونأخذ معه العزاء من المعزيين.

وقفنا بجواره قرابة الساعة، وانا انظر إلينا وقد تجمعنا من جديد ووقفنا بجوار بعضنا البعض اكتافنا فى أكتاف بعض، وأيدينا وقلوبنا مع صديقنا لتربت عليه وتواسيه فى مصيبته.
وقفت ونظرت لقدمى كم هى طول المسافة بين رأسى وبين قدمى، كبرت تلك المسافة، كنا صغارا أطفالا لا نبتعد عن الأرض كل هذه المسافة من قبل. قلبت نظرى بين أصدقائى وقد ارتدى هذا نظارة وقد انحسر شعر ذاك، وقد ربى هذا شاربه واطلق هذا لحيته، نظرت لهم وقد أصبح هذا أبا وذاك خاطبا، نظرت لهم وقلبت فى فكرى كيف أصبح كل واحد منهم مملوئا بالمسئوليات والتبعات، نعم كنا والله أطفالا تملا البراءة اعيننا ويصفو خاطرنا.

انتهى العزاء وودعنا صاحبنا ودعونا لوالدته التى تجلس الآن فى وحشة وظلمة مكان لم تجلس فيه من قبل، وكانت دوما تأنس بأبنائها وأهلها وجيرانها، فها هى تذهب لمكان مظلم وحدها يجاورها فيه الصمت والسكون والوحشة.

ذهبنا كل واحد منا لمنزله لنفترق من جديد، لنكمل دورة الحياة بلقاء يعقبه فراق، فى انتظار تلك اللحظة التى يكون فيها فراق ليس بعده لقاء ولا زال الموت يزورنا ويقلب ناظريه، فترى من سيكون التالى؟؟

3 التعليقات:

  1. عصفور المدينة يقول...

    جزاك الله خيرا على الموعظة
    كل امريء مصبح في أهله
    والموت أدنى من شراك نعله

  2. شذى مولوتوف يقول...

    سبحان الله
    السنة اللى فاتت رحل عنا عمى قبل رمضان باقل من شهرين
    والسنة اللى قبلها رحلت عنا بنت خالى ابنة السابعة والعشرين بردو قبل رمضان باقل من شهرين

    وفى الاسبوع اللى فات رحل عنا جار فى عمر يناهز السابعة والاربعين وترك زوجته وحيدة دول اطفال يؤنسوها وترك المسجد اسفل العمارة الى كان يعمره لدرجة ان اختى قالت المسجد فضى خلاص

    بتسائل بجد عن موعد رحيلهم قبل رمضان بايام قليلة؟؟
    هل هو حرمان من الثواب ام ان الله اعلم بحسناتهم ونوبهم وانهم لايحتاجونه ليدخلوا الجنة

    اللهم بلغنا رمضان وارضى عنا واغفر لنا
    وانظر لنا نظرة رضى لا تسخط علينا بعدها ابدا
    اللهم اعتقنا من النار

  3. غير معرف يقول...

    السلام عليكم ورحمه الله
    اخى الفاضل د احمد
    انا عايز حضرتك ضرورى جدا جدا جدا
    وياريت يكون اليوم قبل غد
    اروا التواصل عبر الميل


    momenjo@hotmail



    وجزاكم الله خيرا


Blogger Template by Blogcrowds


Copyright 2006| Blogger Templates by GeckoandFly modified and converted to Blogger Beta by Blogcrowds.
No part of the content or the blog may be reproduced without prior written permission.